الطفولة المحاصرة

يكثر الحديث في هذه الفترة عن المخاطر التي تهدد الطفولة، وضرورة الاهتمام بها، بصفتها نبتة تمثل المستقبل الفعلي للمجتمع، أو – بتعبير أدق – المجتمع نفسه في الغد القريب. وقد أثار الدكتور فهد الخريجي في محاضرة له بجمعية الثقافة والفنون في الرياض منذ مدة، بعنوان: “الطفل والإعلام الإلكتروني” قلقاً حقيقياً في أذهان الحضور، حيث ركز في محاضرته المستندة إلى دراسات مستقصية أجريت في عدد من دول العالم على حقائق تثبت أن الألعاب الإلكترونية المتمثلة في الأشرطة المضغوطة التي تباع بكميات ضخمة في شتى دول العالم تغرس ثقافة العنف وسلوكياته، وتربي الأطفال الأبرياء – على مدى شهور وسنوات – على استمراء مشاهد الجريمة وتحدي السلطة والمجتمع، وتغذي فيهم نزعات التسلط والأنانية والتحدي لكل قيود تربوية وأخلاقية.

إنها تكوِّن الطفل بدرجة أكبر من الدرجة التي تكونه بها الأسرة والمجتمع. وهذا طبعاً في حالة انشغال الوالدين وبقية أفراد الأسرة عن أطفالهم، أي (تسكيتهم) بالرضوخ لضغوط هذه الكائنات البشرية التي تشكل قِطَعاً من قلوبهم وأكبادهم. وكم منا من رفض أول الأمر ثم ماطل في شراء أجهزة الألعاب الإلكترونية لأطفالهم، ثم لم يتحمل مشاعر الحزن على وجوه أطفاله وأذعن لرغبتهم، وكم منا من سمع أطفالهم يبدون حججهم ومبرراتهم التي تستخدم كمطرقة لا تهدأ: أبناء عمنا لديهم جهاز …، أبناء خالتنا لديهم جهاز…، كل زملائي في المدرسة لديهم جهاز … ويمضون معه وقتا طويلاً كل يوم.

ضرب الدكتور الخريجي أمثلة عدة من مضمون هذه الأشرطة التي تباع في الأسواق – ومنها السوق السعودي – والتي تحفل برسائل ضمنية لا تسر أي إنسان سوي، فما بالك بالمسلم الذي قمة ما يرجوه أن يكون أبناؤه أبناءً صالحين، مفيدين لأنفسهم ويسهمون في بناء مجتمعهم على أسس أخلاقية صلبة. هذا هو الواقع المؤسف الذي يشاهده جميعنا، والذي تنبهت دول – مثل أستراليا كما ذكر الدكتور الخريجي – إلى ضرورة التصدي له، وتطويق آثاره، قبل أن تستشري أضراره وتفتك بالمجتمع، سواء كان ذلك انتشاراً للجريمة وزيادة نسبة العنف في الجرائم، أو الأضرار التي تصيب الأطفال أنفسهم وتجعل منهم مواطنين معاقين نفسياً، وربما عقلياً.

هذه الألعاب الإلكترونية تغذي الخيال، وتغذية الخيال أمر مطلوب. ولكن المشكلة تكمن في أنها تربي الخيال على التفنن في ارتكاب الجرائم، وطرق تكوين العصابات وتعلم العنف الذي يكفل لبطل السي دي السيطرة عليها، وبطل السي دي ليس فقط الشخصية التي تلعب دوراً رئيساً في الشريط، بل إنه – في اللاوعي – الطفل نفسه.

والسؤال هو ما العمل ؟. هل نمنع هذه الأجهزة والأشرطة التي تباع منها كميات تعد بمئات الآلاف في المملكة ؟ هل المنع وحده يكفي، وهل هو الجواب ؟، أم أن المنع يجب أن يصاحب بطرح بدائل ؟ وإذا كان البديل مطلوباً – ولا يجادل أحد في أهمية إحلاله محل هذا المنتج الذي سلب قلوب الأطفال – فهل سيرضى علماؤنا ودعاتنا ووعاظنا وأئمة مساجدنا عن تشغيل رؤوس أموال في إنتاج رسوم متحركة، تكون بديلاً عن الوباء الذي أدركه غيرنا قبلنا ؟ المطلوب – أمام هذا الضرر – ليس فقط القبول بهذا المنتج البديل – الذي لا يوجد حتى الآن -، بل إن المطلوب هو أن يشجع هؤلاء العلماء والأئمة الفضلاء رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال – وهم أولياء أمور أطفال أيضاً – والمؤسسات الاقتصادية على هذا النوع من الإنتاج.

وإذا كان الجانب الربحي أو حتى الجدوى الاقتصادية في هذا النوع من الإنتاج لا يعني شيئاً لهم، مثلما أنه لا يعني شيئاً لنا – نحن أرباب الأسر -، فإن لهذا الإنتاج فوائد تربوية لا تنكر. إنه – من ناحية – يوفر فرصاً للترفيه البريء للأطفال، ومن ناحية أخرى – عندما ينتج بمشاركة مربين ومتخصصين في اللغة العربية وعلم النفس … – يعين المؤسسات التعليمية والتربوية على تقويم لغة أبنائنا العربية، ومن خلاله يتاح لهذه المؤسسات – بشرط أن تكون قادرة على ذلك، أو لنقل مستعدة لذلك – بث مضامين الخير والسلوك القويم، وضخ قيم إيجابية ونماذج إنسانية يقتدى بها، نحتاج لها جميعاً لبنائنا الإنساني، ويحتاج لها أبناؤنا في المستقبل، بدلاً من قيم العنف والتهور والتمرد والاستهتار والسحق والتفجير.

وهذا يجرني إلى أمر آخر، وهو مسألة منع استيراد مثل هذه المنتجات الضارة. وهنا أقول إن الجهاز في حد ذاته لا يسبب المشكلة، بل تقع المشكلة في الأشرطة التي توضع فيه. ولو منعت الدولة استيراد هذه الأجهزة والأشرطة لربما تسبب ذلك في توجيه انتقادات إليها، واتهامها من قبل أطراف ومنظمات دولية بتهم لا علاقة لها بالهدف الذي استوجب المنع. ولكن ماذا لو كان الداعي والمسبب لهذا المنع المجتمع نفسه الذي يطالب ممثلوه حكومتهم بتطبيقه ؟. أقصد بذلك السماح – بل السعي – إلى تكوين هيئة أو لجنة لحماية الطفولة، مكونة من أولياء أمور يختارهم أولياء الأمور الراغبون في تشكيلها – وهم كُثُر – بأنفسهم، وتكون الأهداف المحددة التي تشكل سبب وجود الهيئة أو اللجنة واضحة ومجمعاً عليها من قبل أبناء المملكة.

عندما تقوم هيئة مستقلة – ومنسجمة في استقلاليتها مع مُثُل المجتمع الإسلامية وقيمه والمصلحة العامة -، عندما تقوم هذه الهيئة بمطالبة الدولة بمنع دخول هذا المنتج أو ذاك، مما ثبت للمختصين ضرره، أو عندما يثبت وجود هذا الضرر في مناطق أخرى من العالم، عندما تقوم هذه الهيئة بذلك فستكون حجة الحكومة في المنع أقوى، ولن يستطيع أحد في العالم أن يجبر شعباً على قبول ما يُضِر به. وهذا ما تقوم به حكومات أخرى في العالم تتسلح – أو تتذرع أحياناً – بما يسمى بالمجتمع المدني.

ولكن، إذا أنيط الأمر بإداريين بيروقراطيين – والمعنى واحد – للقيام بهذه المهمة، فلن تكون الهيئة إلا جهازاً حكومياً إضافياً، ولكنه جهاز فاقد الفعالية. لماذا ؟، لأن البعض يرى أن نشاط هيئات حكومية مثل تلك التي تعنى بالطفولة … ليست إلا مجرد موفر لفرص التجول في هذا العالم، والسياحة والاستجمام والتسوق على حساب الدولة؛ مؤتمر دولي هنا، مجلس إقليمي هناك، ورشة عمل في تنجانيقا – إذا كان هذا الاسم لا يزال موجوداً -، اجتماع خبراء الطفولة في جزر البطريق، والملتقى الدوري في بزراميط – رحم الله صاحب العبارة، الكاتب الراحل عوني بشير. وأقصى ما في الأمر من مردود كلمة تلقى في المؤتمر أو الملتقى، والبقاء في المقعد عشر دقائق، وربما ربع ساعة حتى تلتقط الصورة، ثم إنجاز المهمة الحقيقية: السياحة والاستجمام. هذه هي الحقيقة، وأصحاب الشأن يعرفونها.

قلت في البداية إن الطفولة محاصرة !، والحصار يكون من كل الجوانب. ما هو الجانب الذي يشكل في واقعه بقية الجوانب ؟ إنه القنوات الفضائية التي يتابعها الكبار، والصغار – الأطفال -، ويتابعون برامجها التي تبتلع الساعات الطوال من كل يوم، ويستهلكون – على نحو غير واعٍ – عشرات المشاهد والصور والعبارات، دون تفكير الكبار في ضرورة شرح بعض ما لا يفهم – أو لا يقبل – مما ينشَّدُ له الصغار. ولا حاجة لي للتعليق على مضمون معظم ما يُشاهد؛ فأنتم تعرفونه جيداً.

هل يحتاج الأمر إلى إجراء أبحاث علمية لإثبات أن هذه الألعاب الإلكترونية – أو مضمون الترفيه الإلكتروني – الموجودة بكثرة في مجتمعنا مضرة بأطفالنا وخطيرة على مستقبل مجتمعنا ؟ إذا كان البعض يرى ذلك، فما الذي تنتظره الجهات المعنية للشروع في ذلك ؟. أما إذا رأت هذه الجهات أنه لا حاجة لإجراء مثل هذه الأبحاث المرتبطة بأمن المجتمع وأبنائه في الحاضر والمستقبل؛ فلعل فاعل خير يقوم بذلك: يكلف باحثين بإجرائها ويمول أبحاثهم ويهدي نتائجها للجهات ذات العلاقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *