هيبة أمريكا العظمى مهددة بالضياع
إن أفضل تشبيه للولايات المتحدة هو شعور الروماني القديم بقوة العظمة والرغبة الجامحة في استخدامها. هذا الشعور العسكري كان و مازال واضحاً في منطق وزير الدفاع الأمريكي الذي رفض نقد وسائل الإعلام الأمريكية وغيرها بل وسدد لها ضربات ترويعية في معمعة الحرب. وأصبح الصحفيون في غير ذي مأمن من آلة الحرب المروعة. وأصبح من المسلّم به في الفكر العسكري الأمريكي أن هذه الحرب صممت بذكاء تحت مظلة دبلوماسية، إنها أفضل حرب خططت لها الولايات المتحدة. لهذا لا ينبغي للعسكريين القدامى ولا الصحفيين انتقادها أو النيل منها، بل يجب، تمجيدها بغض النظر عن الخسائر البشرية البريئة والتراث الإنساني الذي ضاع بقصد أو بدون قصد. العسكر الأمريكيون لا يقبلون نقداً يذكّرهم بالنتائج العكسية لأعمالهم حتى ولو كان هذا النقد يصب في النهاية في مصالحهم.
بالتأكيد فإن التاريخ سيحدد خطأ فرضية العسكريين الذين يعتقدون أن النصر العسكري سيحقق خضوع الشعوب ومواردهم لهيمنة وأطماع المستعمر، وأنه يمكنهم خداع المواطن العراقي بلقمة عيش بخسة. فتجربة الاستعمار كانت مريرة على كلا الطرفين في العالم العربي. ونحن لا نريد أن تتكرر تجربة المليون شهيد. ودول الاستعمار القديمة عرفت قيمة التصالح مع الشعوب، والبعد عن الهيمنة المباشرة إلى المصالح المتبادلة. فلماذا تعيد أمريكا نفس التجربة المريرة؟ تجربة بدون غطاء شرعي دولي، بل وتمزيق لهيبة الأمم المتحدة التي كانت يوماً ما شراع أمان لحكومات وشعوب العالم.
إن اليمين المتطرف والمسيحيين المتصهينين وغيرها من شخصيات اللوبي المتطرف الذي يحلم بالحرب الكبرى وأرض الميعاد وعودة المخلّص للبشرية، يجرّون العالم إلى الهاوية الخطرة بناء على عقيدة كان يجب عدم ترجمتها إلى فرضية قابلة للخطأ والصواب على حساب الملايين من الأبرياء من شيوخ وأطفال ومساكين ومدنيين لا يعرفون تمتمة هذا المذهب الذي يرفضه عقلاء المسيحية واليهودية في أرجاء الأرض. وعقدة دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات تجعل هؤلاء المتحمسين في حالة من السكر والنشوة، نتيجة ميزان القوة غير المتكافئ، تعميهم عن رؤية حقيقة النهاية لمثل هذا الجموح إلى الهاوية المرة بكل معانيها.
بلا شك أن القوة العسكرية سادت على العراق على المدى القريب، إلا أن الدعم الشعبي العراقي للمحتل والورود لم تكن في استقبالهم. مما يدل على خطأ حساباتهم في أمور كثيرة لم تكن في الحسبان. وذهبت معها الحملة الذكية التي تقول لقد جئنا لكي نحرر الشعب العراقي من طغيان صدام. فالعراقيون أكثر نضجاً سياسياً من ذي قبل ولا يريدون استبدال طاغية بسارق بنوك أو مصاص للبترول أو شخصية ذات ملامح عراقية جاءت لكي تعترف بإسرائيل وتقدم لها التسهيلات بدون أي حساب لمشاعر العراقيين كشعب وحضارة.
الحقيقة المرّة أن نذُر الصراع بين الشعب العراقي والقوة العسكرية المحتلة باتت وشيكة، والخوف من مآسيها بادية للعيان في تململ العراق من الممارسات الهمجية من نهب وسلب وفقدان للأمن وسكوت بسرور على ما يحدث لهذا المسكين الذي رزح لعقود من الزمن للقهر والطغيان. أما الخدمات والبنية التحتية فتقع في دائرة المماطلات. فجلءب الازدهار إلى الشعب العراقي لن يكون بالسيءطَرَة على نفطهم، وإنءقاذهم منء مصيرهم المأساوي لن يكون بالعودة إلى حضارة تملى عليهم بالقوة.
نهاية الحرب على العراق بدأت تقرع النذر على سوريا وإيران وبقية المنظومة العربية تباعاً مما سوف يَخءلقُ عدمَ استقرار سياسي في كُلّ أرجاء المنطقة. وأوروبا أصبحت في حالة من الترقب والخوف من الهيمنة الأمريكية على مصالحها الاقتصادية. منظمة الأمم المتحدة باتت مهددة بالانقراض التدريجي، ومنظمة حلف شمال الأطلسي بدأت تُضعَفُ والتحالف عبر الأطلسي التقليدي منهك. هذه الحرب نَجحتء في دَفءع روسيا وفرنسا وألمانيا والصين إلى النقيض والمعارضة للمصالح الأمريكية حول العالم. العولمة تلقت ضربة نهائية بعد هذه الحرب البسوس. فشركات الطيران تبدو ميتة وبدون نقل جوي، فالعولمة مجرّد شعار جميل لا يستحق التقدير. وتجميد أصول العراق واستخدامها من قبل الحكومة الأمريكية بدون مرجعية الأمم المتحدة حطّم صورةَ الولايات المتّحدة كملجأ آمن مالي. والحرب على العراق جرحت المشاعر القومية العربية وألهبت المشاعر الإسلامية مما سَيُغيّرُ ديناميكا السياسة في الشرق الأوسط. أما أسطورة الحرية والديمقراطية والقوَّة الأمريكية فقد ثُقبتء. هذه الحرب انتهت منء تطورها الحتمي الخاص، وذلك بالرغم من أصوات محبي السلام والمظاهرات ضدّ الحرب. ونهايتها ليست سعيدةً فكم من امرأة وطفل وشيخ ومدني سقط قتيلاً أو مشوهاً بسبب القنابل الخرقاء وغير الذكية.
فهل ستكون الولايات المتّحدة حذرة وأكثر واقعية حول قدرتها على فَرءض إرادتها على الأمم الأخرى من خلال تطبيقات القوة العسكرية المضللة للأهداف السياسية. إن احتلال العراق يُمثّلُ ضربةً ذاتيةً إلى الإمبريالية الأمريكية.
جريدة الرياض
أحدث التعليقات